إذا كنت استخدمت التورية بمعنى أنك حلفت أنك لم تفعل ذلك الشيء وأنت تقصد: زمنا معينا ـ لم تفعله فيه، فلا شيء عليك إذا لم يترتب على توريتك إحقاق باطل أو إبطال حق،
والتورية فيها مخرجا من الكذب، حيث يمكن أن يلجأ إليها المسلم إذا كان لا يريد الإخبار بالحقيقة لسبب ما، ولا يرضى بالوقوع في الكذب.
وقد لجأ سيدنا ابراهيم لهذه الطريقة ففي حديث ابي
هريرة رضي الله عنه، قال: ((لم يَكذِبْ إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كَذَبات، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل، قوله: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 89]، وقوله: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الأنبياء: 63]، وقال: بَيْنَا هو ذات يوم وسارةُ، إذ أتى على جبَّار من الجبابرة، فقيل له: إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتى سارةَ، قال: يا سارةُ، ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرتُه أنك أختي، فلا تُكذِّبيني، فأرسَلَ إليها، فلما دخلتْ عليه ذهب يتناولها بيده، فأُخِذَ، فقال: ادعي اللهَ لي، ولا أضرك، فدعَتِ اللهَ، فأُطلِقَ، ثم تناولها الثانية، فأُخِذَ مثلها أو أشدَّ، فقال: ادعي الله لي، ولا أضرك، فدعت، فأُطلِقَ، فدعا بعض حَجَبَتِه، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان؛ إنما أتيتموني بشيطان! فأخْدَمَها هاجرَ، فأتَتْه وهو قائم يصلي، فأومَأَ بيده: مَهْيَا، قالت: ردَّ الله كيدَ الكافر - أو الفاجر - في نَحْرِه، وأَخدَمَ هاجرَ))، قال أبو هريرة: تلك أمُّكم يا بني ماءِ السماء.
وفي المثل: "إن في المعاريض لَمَنْدوحةً عن الكذب"؛ أي سَعَةً.
وقال صاحب المصباح المنير: (فالتعريض) خلاف التصريح من القول، كما إذا سألت رجلاً: هل رأيتَ فلانًا، وقد رآه ويكره أن يكذب، فيقول: إن فلانًا لَيُرَى فيجعل كلامه مُعَرضًا فرارًا من الكذب، وهذا معنى (المعاريض) في الكلام.
قال ابن قُتَيْبة رحمه الله:
"جاءت الرخصة في المعاريض، وقيل: إن فيها عن الكذب مندوحةً، فمن المعاريض قولُ إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم في امرأته: إنها أختي، يريد أن المؤمنين إخوة، وقولُه: ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾؛ أراد: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون، فجعل النطق شرطًا للفعل، وهو لا ينطق ولا يفعل، وقولُه: ﴿ إِنِّي سَقِيْمٌ ﴾؛ يريد سَأسْقَمُ؛ لأن من كُتب عليه الموت والفناء فلا بد من أن يسقَمَ، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مَيِّتًا في وقته ذلك، وإنما أراد أنك ستموت وسيموتون".
وقد أورد البخاري في (الجامع الصحيح): (باب المعاريض مندوحة عن الكذب):
وقال إسحاق: سمعت أنسًا رضي الله عنه يقول: مات ابنٌ لأبي طلحة، فقال: كيف الغلام؟ فقالت أم سُلَيْمٍ: هدَأَ نفَسُه، وأرجو أن يكون قد استراح. وظن أنها صادقة.
و ذكر الحديث بتمامه في باب: (من لم يظهر حزنه عند المصيبة)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: اشتكى ابنٌ لأبي طلحة، قال: فمات وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيَّأَتْ شيئًا، ونحَّتْه في جانب البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدَأَتْ نفسُه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة، قال: فبات، فلما أصبح اغتسَلَ، فلما أراد أن يخرج أعلمَتْه أنه قد مات، فصلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعل الله أن يباركَ لكما في ليلتكما))، قال سفيان: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعةَ أولادٍ كلهم قد قرأ القرآن.
قال الإمام النووي رحمه الله في (الأذكار): (باب التعريض والتورية):
" اعلم أن هذا الباب من أهم الأبواب، فإنه مما يَكثُرُ استعماله وتعمُّ به البلوى، فينبغي لنا أن نعتني بتحقيقه، وينبغي للواقف عليه أن يتأمله ويعمل به، وقد قدمنا ما في الكذب من التحريم الغليظ، وما في إطلاق اللسان من الخطر، وهذا الباب طريق إلى السلامة من ذلك.
واعلم أن التورية والتعريض معناهما: أن تطلق لفظًا هو ظاهر في معنى، وتريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلاف ظاهره، وهذا ضَرْبٌ من التغرير والخِداع.
قال العلماء: فإن دعتْ إلى ذلك مصلحةٌ شرعية راجحة على خداع المخاطَب، أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب - فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيءٌ من ذلك فهو مكروه وليس بحرام، إلا أن يُتوصَّلَ به إلى أخذ باطل أو دفع حق، فيصير حينئذٍ حرامًا، هذا ضابط الباب