الحمد لله الذي جعل الفقه في الدين علامة على توفيق العبد وخيريته، وخص المتفقهين بزيادة الفهم، وسعة الأفق، وسلامة التفكير، وحسن الاستنتاج.
ثم جعل الفقه الإسلامي في الذروة من فقه جميع الأمم السالفة، مهما بلغت من الحضارة والتشريع والتفكير.
فحينما ظهر الفقه الإسلامي بتشريعه، وتبويبه وتفصيله وتدقيقه، توارى الفقه الروماني واليوناني خجلاً واعترافاً بالعجز والتقصير عن أن يقف وجهاً لوجه أمام الفقه الإسلامي، وألقت روما وأثينا يد السلم معترفة بتفوقه ونضجه.
ولا غرابة في ذلك فإن الفقه الإسلامي مستمد من نصوص ثابتة، ومصادر موثوقة، ترجع في أصلها إلى العلي القدير الذي يعلم حاجات خلقه، ويقدّر مصالحهم، وما يسعدهم في حياتهم الدنيا، وينجيهم من أهوال الآخرة.
كيف وهو الذي يعلم ما تكنُّ صدورهم أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ (تبارك).
وقد حض رسول الإسلام صلوات الله عليه وسلامه على العلم بصورة عامة، وعلى الفقه في الدين بخاصة. فقال : "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" أخرجه الشيخان وقال: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" ـ أخرجه الترمذي ـ وأحاديثه في ذلك من الكثرة بمكان.
لذلك بذل أجدادنا الأمجاد جهدهم، وشحذوا هممهم فدوّنوا تلك المجلدات الضخام، بل تلك الموسوعات التي لم تترك شاردةً ولا واردة مما يحتاج إليه الإنسان في عباداته ومعاملاته ومشاكله وتقلباته إلا بيَّنوا أحكامها وأظهروا مشكلها، فكانت هذه الثروة الضخمة من الفقه الإسلامي التي زادها عظمة وإجلالاً خِصْبُ التفكير، ورحابة الاستدلال والاستنباط، فكانت الآراء المتشعبة، وانبعث الاجتهادات المختلفة، فبرزت هذه المذاهب التي تدل على مرونة النصوص، وسعة التفكير، وعظمة اللغة.