فضح الله المنافقين الذين غدروا في الاسلام وبين عقائدهم وكان على رأسهم حقيرهم عبد الله بن أبي بن سلول،(وَإِذَا لَقُوا۟ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡا۟ إِلَىٰ شَیَـٰطِینِهِمۡ قَالُوۤا۟ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ)
[سورة البقرة 14]
وفي هذه غزوة بني المصطلق كشف المنافقون عن مدى حقدهم على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلموا ليطعنوا الإسلام من الخلف فقد ازدادوا غيظًا بالنصر الذي تحقق للمسلمين، وسعوا إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار، شاب من المهاجرين لطم شابا من الانصار ، فاغتنم ابن ابي سلول هذه الحادثة وبث سمومه وقال: صدق القائل صاحب المثل: " جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك" ثم قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذهب رجل بهذه المقالة وهو زيد بن أرقم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره فاستدعاهم رسول الله فحلفوا له ان من نقل الخبر اليه كاذب ،وصدق الله سيدنا زيد بن ارقم... فلما فشلت محاولتهم، سعى عبد الله بن أبي بن سلول -رأس المنافقين- إلى عرقلة جهود الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة، ومنع الأموال من أن تدفع لذلك، وتوعّد بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة عند العودة إليها، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وحين علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، استدعاه هو وأصحابه (المنافقين)، فأنكروا ذلك، وحلفوا بأنهم لم يقولوا شيئًا، فأنزل الله سورة المنافقين، وفيها تكذيب لهم ولأيمانهم الكاذبة، وتأكيد وتصديق لما نقله عنهم الصحابي زيد بن أرقم، وذلك في قول الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 7، 8].
واستدعى ولده عبد الله وعرض عليه مافعله أبوه فقال والله يارسول الله لأنت العزيز وهو الاذل ،
ولقد استأذن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول في قتل أبيه؛ لما قاله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمره بحسن صحبته.( فإني لم ارسل بقطيعة الرحم)
الحق عزوجل فضح المنافقين ولأجل ذلك اسمعوا البيان الإلهي :
(بَشِّرِ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمًا)
(ٱلَّذِینَ یَتَّخِذُونَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۚ أَیَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِیعࣰا)
[سورة النساء 138- 139]
ويقول :( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) ، ذو الوجهين لايكون عند الله وجيها،
ذو الوجهين - الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ) رواه البخاري (7179) ، ومسلم (2526) - هو الذي يغش كلا الطرفين، فيوهمهم ويكذب عليهم بلسان حاله ومقاله ، أنه يحب منفعتهم ، ويتلهف لعونهم ومحبتهم ، ويسعى لأجلهم ، ولكنه في حقيقة الأمر يطلب ضرهم ، ويبحث عن كل ما يسوؤهم، ويضمر لهم كل سوء، ويمكر بهم الدوائر، وذلك لحساب نفسه، أو لحساب قوم آخرين.
وهذا الخلق السيئ لا يمكن لأحد من الطاعنين إثبات نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ذكر أي دليل عليه، بل الأدلة كلها جاءت بتحريم هذا السلوك، وذم كل خلق يقوم على هذا الوجه من النفاق.
أما المُداري فهو الذي لا ينطق بباطل، ولا يكذب، ولا يغش من يحادثه ويداريه، ولا يشاركه في سوء خلقه وعمله، ولا يظهر له موافقته على باطله، وإنما يسكت عنه في أحيان، ويجامله بالبشاشة والمعاملة الحسنة فقط، دون أدنى تنازل أو غش أو سعي في أذية، لعله يؤثر فيه بعد ذلك ، ويستمع لنصحه، أو لعله يتقي شره ويجتنب أذيته، ولكن دون وقوع في أي مشاركة في الإثم والعدوان.
والمداراة هي ما صدرت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث عائشة الوارد في السؤال: " أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: ( بِئْسَ أَخُو العَشِيرَة ِ، وَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ ) ، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ ، قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ) . رواه البخاري (6032) ، ومسلم (2591) .
فهو صلى الله عليه وسلم لم ينطق بباطل مع هذا الرجل الذي دخل عليه ، فلم يمدحه، ولم يثن عليه ، ولم يشاركه في سوء أخلاقه، ولم يؤيده على شيء من مسالكه، وإنما داراه بالبشاشة وطلاقة الوجه – المعهودة عنه عليه الصلاة والسلام على الدوام–، لعله يؤثر في قلبه بعد ذلك إذا سمع نصحه وتذكيره ، فيخلصه من نفاقه وسوء أفعاله.